في كتابه الأخير، الصادر عن منشورات الزمن بالرباط (المغرب)، يقارب المفكر الإسلامي المغربي أبو زيد المقرئ الإدريسي ظاهرة "الغلو في الدين : المظاهر والأسباب"، مستهلا كتابه بمحاولة تعريف، وهو يأمل أن تكون هذه المحاولة لبنة علاج لهذا الداء الذي يتهدد الأمة بمزيد من التأزم، حيث يتداخل فيه ما هو ثقافي وسياسي، بما هو محلي وخارجي، وبما هو قديم وحديث.. معتبرا أن ظاهرة الغلو ليست طارئة علينا من الخارج، وليست وليدة اليوم، بل هي تليدة تراثنا السلبي، ويرى أن الأمة الإسلامية اليوم لا تعاني من الغلو الديني فقط، فهناك مظاهر شتى له، كالغلو الإيديولوجي والاجتماعي والأمني والثقافي، والتي لا تقل خطورة عن الغلو الديني، ويحدد في مقدمة كتابه الأسباب المنهجية التي وقف عليها، والتي تتصل بالحقائق التالية : ممارسة فضيلة النقد الذاتي، ممارسة فضيلة احترام التخصص، خطورة الغلو حين يلبس لبوسا دينيا، وأخيرا انتماء الكاتب إلى من يحملون همّ هذه الأمة وهمّ هذه الدعوة، المشفقين على مستقبل الصحوة.
بعد أن يعرف كلمة الغلو لغويا، (التشدد وتجاوز الحد)، يشير إلى أن التنصيص على النهي عن "الغلو" بلفظه ورد في القرآن الكريم مرتين، بينما ورود الحديث عن الغلو بغير لفظه كثير جدا، في حين نبّه نبينا الكريم إلى المعنى نفسه بلفظ "التنطع"، وخلص الباحث إلى أن نقيض الغلو هو الاعتدال على منهج الوسطية - حسب التوصيف النبوي الكريم- ليس ضعفا ولا ترخصا ولا استهانة بالمهام، بل هو عين الجدية والمسؤولية وتقدير العاقبة. ويعتبر أبو زيد الغلو في الدين قد يكون شاملا أو مقتصرا على جانب دون آخر، أو يكون في اتجاه الرفض أو القبول، التضييق أو التوسيع، التحريم أو التحليل، لكن الغالب بالنسبة إليه أن يكون شاملا أو أن يكون في اتجاه التشدد، بسبب الطابع النسقي والمغلق للغلو. ويستشهد بمواجهة النبي الكريم للإرهاصات الأولى للغلو في زمانه، ومن ذلك تشديده النكير على أسامة بن زيد في قتله لمحارب أعلن الشهادتين، ثم فزعه عليه الصلاة والسلام إلى المنبر محذرا الناس من الغلو في العبادة والتحريم، حين بلغه خبر الثلاثة الذين سألو ا عن عبادته، فكأنما تقالّوها، فاقتسموا بينهم عبء الغلو تشددا في النوم والجنس والطعام، وبدل أن تتهلل أساريره فرحا بأتباع يبالغون في الطاعة ويتطوعون لمزيد من التكاليف، نبه إلى مكامن الخطر : "من رغب عن سنتي فليس مني"، ثم يستحضر الكاتب حركة الخوارج، التي يعتبرها غلوا خطيرا، انطلق على خلفية صراع سياسي، وحدد أهم مظاهر الغلو عندهم وآثارها، مشيرا إلى أن كل الغلاة من بعد الخوارج لا يشفع لهم حسن نياتهم وإخلاصهم للإسلام، بل يصبح عنصر خطر. ويشمل الغلو المجالات الحيوية الثلاث للإسلام؛ العقيدة (تكفيرا)، العبادات (تبديعا)، والمعاملات (تحريما)، وأبرز مظاهر الغلو الجهل بالطابع المركب الذي خلق به الله تعالى الأشياء ورتب به القوانين، بينما يجنح الغلاة إلى التبسيطية المخلة فالأمر إما حق أو باطل، والموقف إما هدى أو ضلال، والشخص إما مسلم أو كافر، فلا تنسيب ولا تعقيد، ولا اختلاف ولا اجتهاد، ولا خطأ ولا شك ولا حرية، إنما الأشياء بسيطة حاسمة جاهزة، ومن أخطر مظاهر هذه الأحادية التبسيطية العجز عن التمييز بين النص الإلهي والفهوم البشرية النسبية المختلفة والمشروعة المؤسسة لفقه هذا النص، وإلغاء كل الاعتبارات المنهجية والأصولية والمقاصدية والاستيعابية للنص، مما ينتج عنه تماهٍ بين فهم الغلاة ومراد الشارع يؤدي إلى احتكار مطلق للحقيقة، ليس بعده إلا الكفر والضلال، وحسب الإدريسي فهذا الفهم يقع في الخلط بين التوحيد والكهنوت، الإيمان والخرافة، الالتزام والتحجر، الاختلاف والخلاف، الهوية والإقصاء، ويعجز عن الجمع بين العقل والنقل، النص والفهم، الوحي والتراث، الماضي والحاضر، الشورى والطاعة، الشرع والواقع، فتكون النتيجة أحكاما شوهاء واستنتاجات غريبة، ومواقف متشنجة تتحول إلى العنف الدموي، وتصبح فريسة التوظيف الإعلامي والعلماني المحلي والأجنبي والمخابراتي، بل والصهيوني الأمريكي.
وبالنسبة للكاتب فأسباب الغلو هي : التعصب بما هو غلو في مقدار الانتماء، وسواس الفرقة الناجية بما هو غلو في وهم التميز، النصية الحرفية بما هي تغييب للمقاصد، غياب فقه مراتب الأعمال بما هو جهل بمنطق الأولويات، الخلط بين الحق والصواب، الجهل بأحكام الشرع وأصوله وقواعده ومقاصده، الأيدي الخفية، غياب الرؤية الشمولية للنصوص والمعالجة المنهجية للأحكام، الميل النفسي- الفكري المختل، غياب فقه الموازنات، فضلا عن الأسباب الخاصة بكل بيئة (غلبة مفهوم التعصب على مفهوم المواطنة، تشويه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحسبة، تشويه مفهوم الجهاد، التصور الطوباوي لنموذج الدولة الإسلامية، التصور التآمري للآخر، التصور المشوه للحضارة الغربية، التصور الماضوي الزاهر والمجيد، النظرة الدونية للمرأة)، ويلاحظ الكاتب أن بعض الأسباب مشترك مع كثير من بيئات الغلو، بفعل الانفتاح الإعلامي واللوجستي المعاصر، مع فارق الترتيب والتركيز.
***
وفي الفصل المعنون بــ"الغلو الديني... نحو نموذج تفسيري جديد" : فيعزو الإدريسي تبني الغلاة للعنف وإيمانهم بالقوة إلى أسباب شتى، منها :
- المستوى الثقافي : حيث سوء فهم مناطات استعمال القوة في القرآن الكريم، نزع النصوص من سياقها، خلط مرحلة الدعوة بمرحلة الدولة، الخلط بين الوعيد الإلهي والمعاملة البشرية ثم خلط الحق بالصواب.
- المستوى النفسي : والذي يحدده في قانون سيكولوجية المقهور.
- المستوى الذهني : المتولد عن الحالة الإعلامية التي يقودها الغرب، حيث الإرهاب يقرن بالدين الإسلامي فقط، مستفيدا من سيطرته الإعلامية العالمية، حتى خلق هذه الذهنية عند بعض المسلمين، فتبنوا تلك المفاهيم التي يروجها الخطاب الإعلامي.
- المستوى المنهجي : أو ما يسميه الكاتب بالعقلية العسكرتارية، التي تختزل الأداء الحضاري الإسلامي في الفتوحات والحروب، عبر قراءة مجحفة للسيرة النبوية وتاريخ السلف الصالح.
- المستوى السياسي : ويرتبط بالحالة السياسية للمسلمين اليوم، حيث ينشأ إيمان بالقوة في ظل الوضع المتردي، بعد إجهاض المشاريع التنموية والإصلاحية، فانزلق البعض إلى الغلو والتطرف حد عبادة القوة.
أما محاضن الغلو فهي :
* المحاضن الرسمية، حيث تقوم الأنظمة المعادية للإسلام بتمويل التنظيمات المتطرفة سرّا، أو دعم بعض الأنظمة للغلو اللّا ديني، بتبني سياسات تستفز الجماهير المسلمة، وتشكل خطرا على الهوية الإسلامية؛ أي التوجهات العلمانية والحداثية المتطرفة، السياسات اللغوية المعادية للغة العربية، التركيز على الفن الهابط وثقافة التسطيح بوهم مواجهة الظلامية... فينمو الغلو الديني بموجب القانون الفيزيائي لرد الفعل.
* المؤسسات التربوية التي تنتج إنسانا فاقدا للمهارات اللازمة، وتحصر المثل العليا في السلوك الفردي، وإهمال الأهداف العامة وإهمال الأهداف التعليمية، ثم تشويه معاني المصطلحات المتعلقة بمظاهر العمل الصالح، وإخراجها من ميادين الحياة الاجتماعية عن مدلولاتها الأصلية، وحصره في الميادين الدينية.
* التيارات الغوغائية.
***
الغلو المسلح.. من المواجهة إلى المراجعة :
يستشهد الإدريسي في هذا الفصل بتجربة "الجماعة الإسلامية المقاتلة" بمصر، والتي انتهت بعد حوالي ربع قرن من الصراع المسلح إلى مراجعة جذرية للاختيار والموقف والرؤية. وبعد مقدمات حددها الكاتب حتى تصير الأفكار مفهومة في سياقها، وكي لا تستثمر من هذه الجهة أو تلك في الخلوص إلى نتائج وخلاصات لم يقصدها، يحدد دور العامل الفكري والإيديولوجي في إنتاج العنف، ويتدرج الاختيار المنهجي الذي تناول به الموضوع في ثلاثة مستويات...
- تناول ظاهرة العنف في العالم ومحدداتها وبعض مظاهرها، مؤكدا أن العنف الإسلامي ليس الصورة الوحيدة في العالم، كما أنه أقل خطرا وأضعف تأثيرا.
- الدائرة الخاصة بالحركات السياسية، حيث لا يبرز سوى عنف الحركات الإسلامية في العالم، في حين هناك تيارات تؤصل للعنف نظريا.
- يتعلق بالحركة الإسلامية نفسها، فالعامل الفكري/ الإيديولوجي ليس الوحيد المؤدي للعنف، فهناك عوامل أخرى تسهم في إنتاج العنف (كعنف العولمة، عنف دول الهيمنة الغربية، عنف التوظيف السياسي للإرهاب، عنف الاستفراد الأمريكي بالعالم، عنف غياب وتغييب الديمقراطية في العالم العربي، تضييق مساحة الحريات وإقصاء التيارات المعارضة، عنف الاستفزاز العلماني الاستئصالي للحريات والقيم، عنف الفضائيات المتغربة، عنف احتكار الثروة والسلطة، تهميش اللغة العربية، تحالف الأقلية العلمانية والفرنكفونية والشيوعية لمحاصرة منظومة القيم). أما العوامل الذاتية فأبزها العامل الفكري ودوره في إنتاج العنف داخل الحركات الإسلامية.
أما السمات العامة للتوجه العنفي لدى الجماعة الإسلامية بمصر، فيحصرها الكاتب في السمات الأسلوبية، والسمات المنهجية... الأولى، فمن خلال ارتكازها على الكتابات التأسيسية والتي انطلقت من فكر مأزوم يغلب عليها رد الفعل اتجاه قهر السلطة السياسية الاستبدادية بمصر، حمية الصعيد، عدم الالتفات إلى التجارب الحركية السابقة، عدم الالتفات لكسب الدعاة والعلماء من الجيل الحركي الأول، البداوة وسيادة المنطق البدوي في التفكير، والأمانة العلمية. بينما الأعطاب الفكرية فتتجلى في سرعة التفكير، واستحلال الدماء. أما السمات المنهجية فيحصرها الكاتب في القراءة السطحية، حضور النقل وغياب الاستدلال، الغياب الكامل لعلمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة، الغياب الكلي لفقه الواقع.
وبعد ذلك يتطرق الكاتب إلى مضمون المراجعات، وسياق إعلان المبادرة والوعي بخيوط لعبة العنف، ثم التحولات الكبرى في مراجعات الجماعة الإسلامية.
و"في تصور الحل" يتفق الكاتب مع التيارات التي تقترح حلولا أكثر واقعية وشمولية ولا تلغي المقاربة الأمنية وتدْرِجُها ضمن نسق متكامل من الإجراءات الاجتماعية (العدالة)، السياسية (الديمقراطية)، القانونية (الدستور)، الاقتصادية (التنمية)، التربوية (التعليم) و الثقافية (الإعلام والمعرفة). ويركز الباحث على المعالجة الثقافية من الزاوية التصورية (استيعاب طبيعة النسق الكوني ، إذ كل شيء في هذا الكون بقدر، فمن زاد أو نقص فقد غالى، وتسبب في اختلال نمط التركيب الصالح المعتدل) والزاوية المنهجية، من خلال مفهوم الوسطية والاعتدال لتجنيب الحراك الإسلامي السقوط في الغلو والتطرف اعتقادا و سلوكا.
وفي الختام، يشير أبو زيد الإدريسي إلى أن حديثه عن الغلو والتطرف الديني، وقبله العنف والإرهاب، أزمة العقل المسلم المعاصر والطائفية والتعصب المذهبي وغيرها من الأمراض والأعراض لا يدخل في جلد الذات أو الاصطفاف مع أعداء الأمة، وإنما منطلقه مختلف تماما، وإن تقاطعت مضامين كتابته ظاهريا مع ما يكتبون وما يقولون، مؤكدا أن منطلقه هو الغيرة على الأمة والحرص على تعافيها والنهوض بها، بعيدا عن التمجيد المدغدغ للمشاعر أو التضخيم المعقد للهمم، إنه النقد الذاتي كما يفهمه، وهكذا يمارس... وهذا مناط الشجاعة الفكرية والأدبية المفترض.